في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر. و هو ناش اما من ضعف النفس و صغرها، او من الطمع المالي ممن يسامحه، فيكون من رذائل القوة الغضبية من جانب التفريط، او من رذائل القوة الشهوية من جانب الافراط و هو من المهلكات التي يعم فسادها و ضرها، و يسرى الى معظم الناس اثرها و شرها. كيف ولو طوى بساط الامر بالمعروف و النهى عن المنكر اضمحلت الديانة، و تعطلت النبوة، و عمت الفترة، و فشت الضلالة، و شاعت الجهالة، و ضاعت احكام الدين، و اندرست آثار شريعة رب العالمين، و هلك العباد، و خرجت البلاد. و لذا ترى و تسمع ان في كل عصر نهض باقامة هذه السنة بعض المؤيدين، من غير ان تاخذهم في الله لومة لائمين، من اقوياء العلماء المتكفلين لعلمها و القائها، و من سعداء الامراء الساعين في اجرائها و امضائها، رغب الناس الى ضروب الطاعات و الخيرات، و فتحت عليهم بركات الارض و السماوات، و في كل قرن لم يقم باحيائها عالم عامل و لا سلطان عادل، استشرى الفساد، و اتسع الخرق و خرجت البلاد، و استرسل الناس فى اتباع الشهوات و الهوى، و انمحت اعلام الهداية و التقوى.
و لذا ترى في عصرنا-لما اندرس من هذا القطب الاعظم عمله و علمه و انمحتبالكلية حقيقته و اسمه، و عز على بسيط الارض دين يحرس الشريعة و استولت على القلوب مداهنة الخليقة-ان الناس في بيداء الضلالة حيارى و في ايدى جنود الابالسة اسارى، و لم يبق من الاسلام الا اسمه و من الشرع الا رسمه.
و لاجل ذلك ورد الذم الشديد في الآيات و الاخبار على ترك الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و المداهنة فيهما، قال الله سبحانه:
«لو لا ينهاهم الربانيون و الاحبار عن قولهم الاثمو اكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون» (34) .
و قال رسول الله-صلى الله عليه و آله-: «ما من قوم عملوا بالمعاصي، و فيهم من يقدر ان ينكر عليهم فلم يفعل، الا يوشك ان يعمهم الله بعذاب من عنده» . و قال-صلى الله عليه و آله-: «ان الله تعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذى لا دين له» ، فقيل له: و ما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: «الذى لا ينهى عن المنكر» . و قيل له-صلى الله عليه و آله-: «اتهلك القرية و فيها الصالحون؟ قال: نعم! قيل: بم يا رسول الله؟ قال: بتهاونهم و سكوتهم عن معاصى الله» . و قال-صلى الله عليه و آله-: «لتامرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر، او ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (35) . و قال-صلى الله عليه و آله-: «ان الله تعالى ليسال العبد: ما منعك اذ رايت المنكر ان تنكر؟ » . و قال-صلى الله عليه و آله-: «ان الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة، حتى يظهر المنكر بين اظهرهم، و هم قادرون على ان ينكروه فلا ينكرونه» .
و قال امير المؤمنين-عليه السلام-في بعض خطبه: «انما هلك من كان قبلكم، حيث عملوا بالمعاصي و لم ينههم الربانيون و الاحبار عن ذلك، و انهم لما تمادوا في المعاصي و لم ينههم الربانيون و الاحبار عن ذلك نزلتبهم العقوبات، فامروا بالمعروف و نهوا عن المنكر. . . » . و قال عليه السلام: «من ترك انكار المنكر بقلبه و يده و لسانه، فهو ميتبين الاحياء» . و قال-عليه السلام- «امرنا رسول الله-صلى الله عليه و آله-ان نلقى اهل المعاصي بوجوه مكفهرة» . و قال-عليه السلام- «ان اول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بايديكم ثم بالسنتكم، ثم بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفا و لم ينكر منكرا قلب فجعل اعلاه اسفله»
و قال الباقر-عليه السلام-: «اوحى الله عز و جل الى شعيب النبي -عليه السلام-: اني معذب من قومك مائة الف: اربعين الفا من شرارهم، و ستين الفا من خيارهم. فقال-عليه السلام-: يا رب، هؤلاء الاشرار فما بال الاخيار؟ فاوحى الله عز و جل اليه: داهنوا اهل المعاصي، و لم يغضبوا لغضبي» . و قال الصادق-عليه السلام-: «ما قدست امة لم يؤخذ لضعيفها من قويها بحقه غير متعتع» . و قال-عليه السلام-: «ويل لقوم لا يدينون الله بالامر بالمعروف و النهي عن المنكر»
و قال-عليه السلام-: «ان الله تعالى بعث ملكين الى اهل مدينة ليقلبها على اهلها، فلما انتهيا الى المدينة و جدا رجلا يدعو الله و يتضرع اليه، فقال احد الملكين لصاحبه: اما ترى هذا الداعى؟ فقال: قد رايته، و لكن امضى ما امر به ربي. فقال: لا، و لكن لا احدث شيئا حتى اراجع ربي. فعاد الى الله تبارك و تعالى، فقال: يا رب اني انتهيت الى المدينة، فوجدت عبدك فلانا يدعرك و يتضرع اليك. فقال: امض ما امرتك به، فان ذا رجل لم يتمعر وجهه غيظا لي قط» . و قال -عليه السلام-لقوم من اصحابه: حق لي ان آخذ البرىء منكم بالسقيم و كيف لا يحق لي ذلك و انتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه و لا تهجرونه و لا تؤذونه حتى يتركه» . و قال-عليه السلام-: «لا حملن ذنوب سفهائكم على علمائكم. . . الى ان قال: ما يمنعكم اذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الاذى، ان تانوه فتؤنبوه و تعذلوه، و تقولوا له قولا بليغا! » ، قيل له: اذن لا يقبلون منا، قال: «اهجروهم و اجتنبوا مجالستهم» .
و في بعض الاخبار النبوية: «ان امتي اذا تهاونوا في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر فلياذنوا بحرب من الله» . و قد وردت اخبار بالمنع عن حضور مجالس المنكر اذا لم يمكنه دفعه و النهي عنه، و لو حضر نزلت عليه اللعنة. و على هذا لا يجوز دخول بيت الظلمة و الفسقة، و لا حضور المشاهد التي يشاهد فيها المنكر و لا يقدر على تغييره، اذ لا يجوز مشاهدة المنكر من غير حاجة، اعتذارا بانه عاجز. و لهذا اختار جماعة من السلف العزلة، حذرا من مشاهدة المنكر في الاسواق و المجامع و الاعياد، مع عجزهم عن التغيير.
ثم اذا كان الامر في المداهنة في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر بهذه المثابة، فيعلم ان الامر بالمنكر و النهى عن المعروف كيف حاله. قال رسول الله-صلى الله عليه و آله-: «كيف بكم اذا فسدت نساؤكم و فسق شبابكم و لم تامروا بالمعروف و لم تنهوا عن المنكر؟ » فقيل له-صلى الله عليه و آله-: و يكون ذلك يا رسول الله؟ ! قال: «نعم!
كيف بكم اذا امرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف؟ ! » ، فقيل له: يا رسول الله، و يكون ذلك؟ ! قال: «نعم! و شر من ذلك! كيف بكم اذا رايتم المعروف منكرا و المنكر معروفا؟ ! » ، و في رواية:
«و عند ذلك يبتلى الناس بفتنة، يصير الحليم فيها حيران» (36) .
و من تامل في الاخبار و الآثار، و اطلع على التواريخ و السير و قصص الامم السالفة و القرون الماضية، و ما حدثت لهم من العقوبات، و ضم ذلك الى التجربة و المشاهدة في عصره، من ابتلاء الناس ببعض البلايا السماوية و الارضية، يعلم ان كل عقوبة سماوية و ارضية، من الطاعون و الوباء، و القحط و الغلاء، و حبس المياه و الامطار، و تسلط الظالمين و الاشرار، و وقوع القتل و الغارات، و حدوث الصواعق و الزلازل، و امثال ذلك، تكون مسبوقة بترك الامر بالمعروف و النهى عن المنكر